مع الشّاعرة أسماء رمرام في نصها "جروح الرَوِيّْ.".
مع الشّاعرة أسماء رمرام في نصها "جروح
الرَوِيّْ.".
الشّاعرة أسماء رمرام روح تنبض بالدّفء و الجمال، و قلم سيّال يعجّ بالصفاء
و الحبّ و البهاء ..شعرها يسمو و يسمو إلى مقامات وجدانية تتعدّى آفاق هذا الوجود
الرّحب العجيب ..و لا غرو فبعد سياحتنا في حدائق قصيدتها "جروح الرّوي"
يزول العجب ، و ينجلي الضباب ، و ترسو السفينة على شطآن الحقيقة الصادمة
المدهشة...
جروح الرَوِيّْ..
عنوان يبوح ببعض أسراره و يخفي الكثير منها بين ثناياه...فالجروح أنواع و أشدّها على النفس و أقساها نكاية و إثخانا ما كان منها نفسيّا معنويا و لعلّ عنوان القصيدة " جروح الرَوِيّْ.." يشي بكثير من هذا المعنى المؤلم المكنون.. فبلسم مثل هذه الجروح عزيز و مكلف ..و يا ليته كان جرجا واحدا فيهون الخطب بل إنّه جروح هكذا بالجمع ...
و
نراها اختارت لقصيدتها كرويّ حرف الياء
المرفق بألف المدّ بقصد و سبق إصرار
ليشكلا معا شكل "يا" : حرف نداء مفتوح
لحبيب غائب حاضر في القلب و الوجدان و الذاكرة و الشّعور ..و ما أجمله و
أدّقه من اختيار ..و حرف الياء من حروف
الجوف الهوائية الضعيفة ، و سُمّيت بذلك لانتقالها من حال إلى حال كما قرره صاحب
لسان العرب ..
و لا شك أن حروف هذه القصيدة قد خرجت من أعمق
جوفها متلفّعة بآهات الجروح و أنّاتها...و تبتدأ المقطوعة النادرة بسؤال مباشر
و دون مقدمات بحثا عن جواب شاف كاف فلطالما جال هذا السؤال و صال غي نفسيتها
المؤرقة و لم تجد له قرارا فبات يحفر و ينكث الجروح تلو الجروح و باتت تئنّ في صمت و
احتراق...سؤال عتب و لوم بلغة السلوان .. و
السلوان معنى جامع لكلّ ما يذهب الهمّ و الحزن عن صاحبه ..و التّعبير بالحقيبة فيه
دلالات كثيرة و عميقة ..فالحقيبة ترمز إلى المستقبل المشحون بالمفاجآت و الأسرار ..كما قد ترمز إلى قساوة العيش و
أثقاله...و المعنيان حاضران بقوّة و هذا من بلاغتها و تمكنها من مداعبة الألفاظ و
مغازلة معانيها ...و لكن مع نزف جروحها تبقى
أسرارهما المخبأة في تلك الحقيبة هي سلوانها الوحيد الذي يخفّف كن أثقال همومها و
مخاوف أحزانها و ها هي عن طيب نفس و خاطر تتقبّل آلامها بعد فراقهما و ذهوله عنها الطويل
ملازمة لمحراب صلاتها ..و الصلات تعني الدعاء لغة و هو مناسب لحركة الشفاه المجمجمة ...
لماذا تركتَ الحقيبة
تسلو
جروحَ الصلاةِ على شفتيّا؟
جروحَ الصلاةِ على شفتيّا؟
و تستمرّ تساؤلاتها و لكن هذه المرّة في شكل
تقريريّ مغلفا بعطور اللوم و الحنين لتثبت
حقائق كبرى أدمت فؤادها المعنّى و كيف عمل سيف الغياب الصارم في جنونه بها فأرداه
أرضا لا حياه فيه و لا نماء من بعد خصب و ريّ ..من قمّة الجنون إلى أسفل طيّ
النسيان ..هكذا فجأة أصبحت لا وزن لها ..نكران مطلق ..تجاهل ممتد ..أم حسبها ثوبا
لبسه يوما ما فأدفاه ليخبأه في خزانة النسيان و كأنّه لم يكن يوما له دفئا و حنانا و سترا...و لا شيئا ذا بال يذكر ...
وأنت الذي في القصائدِ تهفو
كظلٍّ ظليلٍ إلى كتفيَّا؟
أبعدَ الغيابِ يكفّ جنونك
عنْ طيِّ وزني
كثوبٍ تخبئه في الخزانة
خوفاً من العصفِ
إن قال شيَّا؟
و ها هي
نراها تقسم بالذي قال كنْ فيكون ..بأنّ لها نفسا كبيرة عصية على الكسر و الانحناء و ما مثلها إلا كطاير مغرّد لم ينقطع
غناؤه بعد و لن ينقطع برغم شدة عتمة الليل الزاحفة جيوشه العرمة...بل إنّه هو الذي
فقدها والجا ظلمة ليل جالم من صنع يديه على ما ترك غيابه في نفسها الرقيقة الجياشة من خطوط وشم محفورة ..عصيّة على المسيان
..بعيدة الأغوار و الآثار ة التبعات ...
و ها هي
ثانية تؤكّد أيمانها المغلظة بتوكيد لفظ مادي محسوس و بنفس القسم كدليل على
إصرارها و عدم تغيير قناعاتها و مواقفها و تعلنها صراحة مدوية في آذان الوجود
بأنّها لا تزال على العهد قائمة و صابرة
إنْ كان للعهود مراعيا و للحبّ وفيّا و أمينا و منصفا..
و هذه صورة
جمالية إنسانية أخاذة تأخذ بالألباب و تنقاد لها معاني الحبّ و
الوفاء و الصفاء ولهة طيّعة و مأسورة مهضومة الجناح...
أنا – والذي قال كوني-
فكنتُ
أغنّي وإن ضاقَ ليلي عليّا
هو الليل ليْلكَ
أنت
وإن كان وشمك فيه
عصيَّا.. قصيّا
أنا – والذي قال كوني-
فكنتُ
اكتواءً بجلدكَ آوي إليّا
إذا كان في جِلدك الحبُّ
سجنًا
وفي راحتيكَ الكلامُ سبيَّا..
و يأتي المقطع الأخير أقوى من سابقيه
...ليتبدأ أيضا بسؤال ثالث لتتوافق النّهايات بالبدايات و تتناغم ..يبتدأ بسؤال
تقريري عتابيّ يوحي بالطّيبة في أسمى تجلّياتها و الغفران في ألطف صوره و كيف
سوّلت له نفسه و أطاعته مشاعره و وافقه سلطان قلبه فرحل عنها من يعد ما سكن غي
مجاني حديقة روحها الغنّاء ، و الباسقة المموسقة... و نراها تذكّره بتلك اللحظات
الجميلة حين كان يستلقي على جنبات مقلتيها ، ينعم بظلالها الوارفة الممتدة كطفل
يتيم يرى فيها أمّه من بعد أمّه...و قد سقته من رضاب ريقها غيمات ماطرة فأخرجت
بإذن ربّها زهورا ناضرة تسّر لها أرواح الحالمين...أمن بعد خذا العيش الكريم
المترف و النضارة و البهاء و النماء تختار الغياب و تذوي ببطيء يقتلها الانتظار و
الشوق كشمعة أضاءت طريقك فّلما اهتديت و
أمنت تركتها تخبو في صمت مرعب خانق لتذكّرك و هجرانك .. لتختتم هذه الملحمة الشعرية الوجدانية الراقية لفظا و
معنى و نظما و سبكا و إيحاء و يعدا
بتوجيه رسالة واضحة بأنّك في نهاية الأمر أنك الخاسر إذ كيف لم يشفق قلبك حين
بكيتك و يكبن ذكراك و غيابك لتأتي الآن تبكي رويّا على مشارف النهايات اتخذ من
النّهايات ملاذا له و سكنا...
لماذا تركتَ الحديقة تغفو
كطفلٍ يتيمٍ على مُقلتيّا
وخبّأتُ في فيكَ ريقي
فكيف تنام الزهورُ
وتذوي مَليّا؟
وما أشفق القلب يومَ بكيتُ
فكيف بك الآن تبكي الرَويّا؟
يا لها من ملحمة وجدانية إنسانية هادئة و عالمية تتخطّى حدود الجمال و البهاء و الخلود .
تونس في
16/04/2020
تعليقات
إرسال تعليق